الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **
قال ابن إسحاق: وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف، من بني سليم سبعمائة، ويقول بعضهم ألف، ومن بني غفار أربعمائة، ومن أسلم أربعمائة ومن مزينة ألف وثلاثة نفر، وسائرهم من قريش والأنصار وحلفائهم، وطوائف العرب من تميم وقيس وأسد. وقال عروة والزهري وموسى بن عقبة: كان المسلمون يوم الفتح الذين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر ألفاً، فالله أعلم. (ج/ص: 4/ 355) قال ابن إسحاق: وكان مما قيل من الشعر في يوم الفتح قول حسان بن ثابت: عفت ذات الأصابع فالجواء * إلى عذراء منزلها خلاء ديار من بني الحسحاس قفر * تعفيها الروامس والسماء وكانت لا يزال بها أنيس * خلال مروجها نعم وشاء فدع هذا ولكن من لطيف * يؤرقني إذا ذهب العشاء لشعثاء التي قد تيمته * فليس لقلبه منها شفاء كأن خبيئة من بيت رأس * يكون مزاجها عسل وماء إذا ما الأشربات ذكرن يوماً * فهن لطيب الراح الفداء نوليها الملامة إن المنا * إذا ما كان مغت أو لحاء ونشربها فتتركنا ملوكاً * وأسداً ما ينهنها اللقاء عدمنا خيلنا أن لم تروها * تثير النقع موعدها كداء ينازعن الأعنة مصغيات * على أكتافها الأسل الظماء تظل جيادنا متمطرات * يلطمهن بالخمر النساء فإما تعرضوا عنا اعتمرنا * وكان الفتح وانكشف الغطاء وإلا فاصبروا لجلاد يوم * يعز الله فيه من يشاء وجبريل رسول الله فينا * وروح القدس ليس له كفاء وقال الله قد أرسلت عبداً * يقول الحق إن نفع البلاء شهدت به فقوموا صدقوه * فقلتم لا نقوم ولا نشاء وقال الله قد سيرت جنداً * هم الأنصار عرضتها اللقاء لنا في كل يوم من معد * سباب أو قتال أو هجاء فنحكم بالقوافي من هجانا * ونضرب حين تختلط الدماء ألا أبلغ أبا سفيان عني * مغلغلة فقد برح الخفاء بأن سيوفنا تركتك عبداً * وعبد الدار سادتها الإماء هجوت محمداً فأجبت عنه * وعند الله في ذاك الجزاء أتهجوه ولست له بكفء * فشركما لخيركما الفداء هجوت مباركاً براً حنيفاً * أمين الله شيمته الوفاء أمن يهجو رسول الله منكم * ويمدحه وينصر سواء فإن أبي ووالده وعرضي * لعرض محمد منكم وقاء لساني صارم لا عيب فيه * وبحري لا تكدره الدلاء (ج/ص: 4/ 356) قال ابن هشام: قالها حسان قبل الفتح. قلت: والذي قاله متوجه لما في أثناء هذه القصيدة مما يدل على ذلك، وأبو سفيان المذكور في البيت هو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. قال ابن هشام: وبلغني عن الزهري أنه قال: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء يلطمن الخيل بالخمر تبسم إلى أبي بكر رضي الله عنه. قال ابن إسحاق: وقال أنس بن زنيم الدئلي يعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان قال فيهم عمرو بن سالم الخزاعي - يعني لما جاء يستنصر عليهم - كما تقدم: أأنت الذي تهدى معد بأمره * بل الله يهديهم وقال لك أشهد وما حملت من ناقة فوق رحلها * أبر وأوفى ذمة من محمد أحث على الخير وأسبغ نائلاً * إذا راح كالسيف الصقيل المهند وأكسى لبرد الخال قبل ابتذاله * وأعطى لرأس السابق المتجرد تعلم رسول الله أنك مذركي * وأن وعيداً منك كالأخذ باليد تعلم رسول الله أنك قادر * على كل صرم متهمين ومنجد تعلم أن الركب ركب عويمر * هموا الكاذبون المخلفوا كل موعد ونبوا رسول الله أني هجوته * فلا حملت سوطي إلي إذن يدي سوى أنني قد قلت ويل أم فتية * أصيبوا بنحس لا بطلق وأسعد أصابهموا من لم يكن لدمائهم * كفاء فعزت عبرتي وتبلدي وإنك قد أخبرت أنك ساعياً * بعبد بن عبد الله وابنة مهود ذؤيب وكلثوم وسلمى تتابعوا * جميعاً فإن لا تدمع العين أكمد وسلمى وسلمى ليس حي كمثله * وإخوته وهل ملوك كأعبد فإني لا ذنباً فتقت ولا دماً * هرقت تبين عالم الحق واقصد (ج/ص: 4/ 357) قال ابن إسحاق: وقال بجير بن زهير بن أبي سلمى في يوم الفتح: نفى أهل الحبلق كل فج * مزينة غدوة وبنو خفاف ضربناهم بمكة يوم فتح النـ* ـبي الخير بالبيض الخفاف صبحناهم بسبع من سليم * وألف من بني عثمان واف نطأ أكتافهم ضرباً وطعناً * ورشقاً بالمريشة اللطاف ترى بين الصفوف لها حفيفاً * كما انصاع الفواق من الرصاف فرحنا والجياد تجول فيهم * بأرماح مقومة الثقاف فأبنا غانمين بما اشتهينا * وأبوا نادمين على الخلاف وأعطينا رسول الله منا * مواثقنا على حسن التصافي وقد سمعوا مقالتنا فهموا * غداة الروع منا بانصراف وقال ابن هشام: وقال عباس بن مرداس السلمي في فتح مكة: منا بمكة يوم فتح محمد * ألف تسيل به البطاح مسوم نصروا الرسول وشاهدوا آياته * وشعارهم يوم اللقاء مقدم في منزل ثبتت به أقدامهم * ضنك كأن الهام فيه الحنتم جرت سنابكها بنجد قبلها * حتى استقام لها الحجاز الأدهم الله مكنه له وأذله * حكم السيوف لنا وجد مزحم عود الرياسة شامخ عرنينه * متطلع ثغر المكارم خضرم وذكر ابن هشام في سبب إسلام عباس بن مرداس: أن أباه كان يعبد صنماً من حجارة يقال له ضمار، فلما حضرته الوفاة أوصاه به، فبينما هو يوماً يخدمه إذ سمع صوتاً من جوفه وهو يقول: قل للقبائل من سليم كلها * أودى ضمار وعاش أهل المسجد إن الذي ورث النبوة والهدى * بعد ابن مريم من قريش مهتدي أودى ضمار وكان يعبد مدة * قبل الكتاب إلى النبي محمد قال: فحرق عباس ضمار، ثم لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، وقد تقدمت هذه القصة بكمالها في باب هواتف الجان مع أمثالها وأشكالها، ولله الحمد والمنة. (ج/ص: 4/ 358) بعثه عليه السلام خالد بن الوليد بعد الفتح إلى بني جذيمة من كنانة قال ابن إسحاق: فحدثني حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف، عن أبي جعفر محمد بن علي قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد حين افتتح مكة داعياً ولم يبعثه مقاتلاً، ومعه قبائل من العرب وسليم بن منصور، ومدلج بن مرة، فوطئوا بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، فلما رآه القوم أخذوا السلاح، فقال خالد: ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا. قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أصحابنا من أهل العلم من بني جذيمة قال: لما أمرنا خالد أن نضع السلاح، قال رجل منا يقال له جحدم: ويلكم يا بني جذيمة إنه خالد، والله ما بعد وضع السلاح إلا الأسار، وما بعد الأسار إلا ضرب الأعناق، والله لا أضع سلاحي أبداً. قال: فأخذه رجال من قومه فقالوا: يا جحدم أتريد أن تسفك دماءنا، إن الناس قد أسلموا ووضعت الحرب، وأمن الناس، فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه، ووضع القوم سلاحهم لقول خالد. قال ابن إسحاق: فقال حكيم بن حكيم، عن أبي جعفر قال: فلما وضعوا السلاح أمر بهم خالد فكتفوا، ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم، فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يديه إلى السماء ثم قال: ((اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد)). قال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم أنه انفلت رجل من القوم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل أنكر عليه أحد ؟)). فقال: نعم، قد أنكر عليه رجل أبيض ربعه، فنهمه خالد فسكت عنه، وأنكر عليه رجل آخر طويل مضطرب فاشتدت مراجعتهما، فقال عمر بن الخطاب: أما الأول يا رسول الله فابني عبد الله، وأما الآخر فسالم مولى أبي حذيفة. قال ابن إسحاق: فحدثني حكيم بن حكيم، عن أبي جعفر قال: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فقال: ((يا علي اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك)). فخرج علي حتى جاءهم، ومعه مال قد بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم فودى لهم الدماء، وما أصيب لهم من الأموال، حتى أنه ليدي ميلغة الكلب، حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وداه، بقيت معه بقية من المال فقال لهم علي حين فرغ منهم: هل بقي لكم دم أو مال يود لكم ؟ قالوا: لا. قال: فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال احتياطاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا يعلم ولا تعلمون، ففعل ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فقال: ((أصبت وأحسنت)). ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة قائماً شاهراً يديه حتى إنه ليرى ما تحت منكبيه يقول: ((اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد)) ثلاث مرات. قال ابن إسحاق: وقد قال بعض من يعذر خالداً أنه قال: ما قاتلت حتى أمرني بذلك عبد الله بن حذافة السهمي، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرك أن تقاتلهم لامتناعهم من الإسلام. قال ابن هشام: قال أبو عمرو المديني: لما أتاهم خالد بن الوليد قالوا: صبأنا صبأنا. وهذه مرسلات ومنقطعات. (ج/ص: 4/ 359) وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن ابن عمر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني - أحسبه قال - جذيمة فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، وخالد يأخذ بهم أسراً وقتلاً. قال: ودفع إلى كل رجل منا أسيراً حتى إذا أصبح يوماً أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره. قال ابن عمر: فقلت: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل أحد من أصحابي أسيره. قال: فقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا صنيع خالد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ورفع يديه: ((اللهم إني ابرأ إليك مما صنع خالد)) مرتين. ورواه البخاري، والنسائي، من حديث عبد الرزاق به نحوه. قال ابن إسحاق: وقد قال لهم جحدم لما رأى ما يصنع خالد: يا بني جذيمة ضاع الضرب قد كنت حذرتكم مما وقعتم فيه. قال ابن إسحاق: وقد كان بين خالد وبين عبد الرحمن بن عوف - فيما بلغني - كلام في ذلك، فقال له عبد الرحمن: عملت بأمر الجاهلية في الإسلام ؟ فقال: إنما ثأرت بأبيك. فقال عبد الرحمن: كذبت قد قتلت قاتل أبي، ولكنك ثأرت بعمك الفاكه بن المغيرة حتى كان بينهما شر، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((مهلاً يا خالد دع عنك أصحابي، فوالله لو كان لك أحد ذهباً ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته)). ثم ذكر ابن إسحاق قصة الفاكه بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم عم خالد بن الوليد في خروجه هو، وعوف بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة، ومعه ابنه عبد الرحمن وعفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، ومعه ابنه عثمان في تجارة إلى اليمن، ورجوعهم ومعهم مال لرجل من بني جذيمة كان هلك باليمن. فحملوه إلى ورثته فادعاه رجل منهم يقال له خالد بن هشام، ولقيهم بأرض بني جذيمة فطلبه منهم قبل أن يصلوا إلى أهل الميت، فأبوا عليه، فقاتلهم فقاتلوه حتى قتل عوف والفاكه، وأخذت أموالهما وقتل عبد الرحمن قاتل أبيه خالد بن هشام، وفر منهم عفان ومعه ابن عثمان إلى مكة. فهمت قريش بغزو بني جذيمة، فبعث بنو جذيمة يعتذرون إليهم بأنه لم يكن عن ملأ منهم، وودوا لهم القتيلين وأموالهما، ووضعوا الحرب بينهم. يعني فلهذا قال خالد لعبد الرحمن: إنما ثأرت بأبيك يعني حين قتلته بنو جذيمة، فأجابه بأنه قد أخذ ثأره وقتل قاتله. ورد عليه بأنه إنما ثأر بعمه الفاكه بن المغيرة حين قتلوه، وأخذوا أمواله، والمظنون بكل منهما أنه لم يقصد شيئاً من ذلك، وإنما يقال هذا في وقت المخاصمة، فإنما أراد خالد بن الوليد نصرة الإسلام وأهله، وإن كان قد أخطأ في أمر واعتقد أنهم ينتقصون الإسلام بقولهم صبأنا صبأنا، ولم يفهم عنهم أنهم أسلموا، فقتل طائفة كثيرة منهم وأسر بقيتهم، وقتل أكثر الأسرى أيضاً، ومع هذا لم يعزله رسول الله صلى الله عليه وسلم بل استمر به أميراً. (ج/ص: 4/ 360) وإن كان قد تبرأ منه في صنيعه ذلك وودى ما كان جناه خطأ في دم أو مال، ففيه دليل لأحد القولين بين العلماء في أن خطأ الإمام يكون في بيت المال لا في ماله، والله أعلم. ولهذا لم يعزله الصديق حين قتل مالك بن نويرة أيام الردة، وتأول عليه ما تأول حين ضرب عنقه، واصطفى امرأته أم تميم. فقال له عمر بن الخطاب: اعزله فإن في سيفه رهقاً. فقال الصديق: لا أغمد سيفاً سله الله على المشركين. وقال ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، عن الزهري، عن ابن أبي حدرد الأسلمي قال: كنت يومئذ في خيل خالد بن الوليد فقال فتى من بني جذيمة وهو في سني، وقد جمعت يداه إلى عنقه برمة، ونسوة مجتمعات غير بعيد منه: يا فتى، قلت: ما تشاء ؟ قال: هل أنت آخذ بهذه الرمة فقائدي إلى هذه النسوة، حتى أقضي إليهن حاجة، ثم تردني بعد فتصنعوا ما بدا لكم. قال: قلت: والله ليسير ما طلبت فأخذت برمته فقدته بها حتى وقفته عليهن. فقال: أسلمي حبيش على نفد من العيش: أريتك إذ طالبتكم فوجدتكم * بحلية أو ألفيتكم بالخوانق ألم يك أهلاً أن ينول عاشق * تكلف إدلاج السرى والودائق فلا ذنب لي قد قلت إذ أهلنا معا * أثيبي بود قبل إحدى الصفائق أثيبي بود قبل أن يشحط النوى * وينأى الأمير بالحبيب المفارق فإني لا ضيعت سر أمانة * ولا راق عيني عنك بعدك رائق سوى أن ما نال العشيرة شاغل * عن الود إلا أن يكون التوامق قالت: وأنت فحييت عشراً وتسعاً وتراً وثمانية تترى. قال: ثم انصرفت به فضربت عنقه. قال ابن إسحاق: فحدثني أبو فراس ابن أبي سنبلة الأسلمي، عن أشياخ منهم، عمن كان حاضرها منهم قالوا: فقامت إليه حين ضربت عنقه فأكبت عليه، فما زالت تقبله حتى ماتت عنده. وروى الحافظ البيهقي: من طريق الحميدي، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق، أنه سمع رجلاً من مزينة يقال له ابن عصام، عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية قال: ((إذا رأيتم مسجداً أو سمعتم مؤذناً فلا تقتلوا أحداً)). (ج/ص: 4/ 361) قال: فبعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، وأمرنا بذلك، فخرجنا قبل تهامة، فأدركنا رجلاً يسوق بظعائن فقلنا له: أسلم. فقال: وما الإسلام ؟ فأخبرناه به فإذا هو لا يعرفه. قال: أفرأيتم إن لم أفعل ما أنتم صانعون ؟ قال: قلنا نقتلك. فقال: فهل أنتم منظري حتى أدرك الظعائن ؟ قال: قلنا: نعم، ونحن مدركوك. قال: فأدرك الظعائن فقال: أسلمي حبيش قبل نفاد العيش. فقالت الأخرى: أسلم عشراً وتسعاً وتراً وثمانياً تترى. ثم ذكر الشعر المتقدم إلى قوله: وينأى الأمير بالحبيب المفارق. ثم رجع إلينا فقال: شأنكم. قال: فقدمناه فضربنا عنقه. قال: فانحدرت الأخرى من هودجها فجثت عليه حتى ماتت. ثم روى البيهقي: من طريق أبي عبد الرحمن النسائي، ثنا محمد بن علي بن حرب المروزي، ثنا علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فغنموا وفيهم رجل، فقال لهم: إني لست منهم، إني عشقت امرأة فلحقتها فدعوني أنظر إليها ثم اصنعوا بي ما بدا لكم. قال: فإذا امرأة أدماء طويلة. فقال لها: أسلمي حبيش قبل نفاد العيش. ثم ذكر البيتين بمعناهما. قال: فقالت: نعم فديتك. قال: فقدموه فضربوا عنقه، فجاءت المرأة فوقعت عليه، فشهقت شهقة أو شهقتين ثم ماتت، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر، فقال: ((أما كان فيكم رجل رحيم)). بعث خالد بن الوليد لهدم العزى قال ابن جرير: وكان هدمها لخمس بقين من رمضان عامئذ. قال ابن إسحاق: ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى العزى، وكانت بيتاً بنخلة يعظمه قريش وكنانة ومضر، وكان سدنتها وحجابها من بني شيبان من بني سليم حلفاء بني هاشم، فلما سمع حاجبها السلمي بمسير خالد بن الوليد إليها علق سيفه عليها، ثم اشتد في الجبل الذي هي فيه وهو يقول: أيا عز شدي شدة لا شوى لها * على خالد ألقي القناع وشمري أيا عز إن لم تقتلي المرء خالداً * فبوئي بإثم عاجل أو تنصَّري قال: فلما انتهى خالد إليها هدمها، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ج/ص: 4/ 362) وقد روى الواقدي وغيره: أنه لما قدمها خالد لخمس بقين من رمضان فهدمها ورجع، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما رأيت ؟)). قال: لم أر شيئاً، فأمره بالرجوع فلما رجع خرجت إليه من ذلك البيت امرأة سوداء ناشرة شعرها تولول، فعلاها بالسيف وجعل يقول: يا عُزَّى كفرانك لا سبحانك * إني رأيت الله قد أهانك ثم خرب ذلك البيت الذي كانت فيه، وأخذ ما كان فيه من الأموال رضي الله عنه وأرضاه، ثم رجع فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((تلك العزى ولا تعبد أبداً)). وقال البيهقي: أنبا محمد بن أبي بكر الفقيه، أنبا محمد بن أبي جعفر، أنبا أحمد بن علي، ثنا أبو كريب، عن ابن فضيل، عن الوليد بن جميع، عن أبي الطفيل قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة وكانت بها العزى، فأتاها وكانت على ثلاث سمرات، فقطع السمرات، وهدم البيت الذي كان عليها. ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: ((ارجع فإنك لم تصنع شيئاً)) فرجع خالد فلما نظرت إليه السدنة وهم حجابها، أمعنوا هرباً في الجبل وهم يقولون: يا عزى خبليه يا عزى عوريه وإلا فموتي برغم. قال: فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها ووجهها، فعممها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: ((تلك العزى)). لا خلاف أنه عليه الصلاة والسلام أقام بقية شهر رمضان يقصر الصلاة ويفطر، وهذا دليل من قال من العلماء: أن المسافر إذا لم يجمع الإقامة فله أن يقصر ويفطر إلى ثماني عشر يوماً في أحد القولين، وفي القول الآخر كما هو مقرر في موضعه. قال البخاري: ثنا أبو نعيم، ثنا سفيان ح، وحدثنا قبيصة ثنا سفيان، عن يحيى بن أبي إسحاق، عن أنس بن مالك قال: أقمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشراً يقصر الصلاة. وقد رواه بقية الجماعة من طرق متعددة، عن يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي البصري، عن أنس به نحوه. قال البخاري: ثنا عبدان، ثنا عبد الله، أنبا عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يوماً يصلي ركعتين. ورواه البخاري أيضاً من وجه، زاد البخاري وأبو حصين كلاهما، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من حديث عاصم بن سليمان الأحول، عن عكرمة، عن ابن عباس به. وفي لفظ لأبي داود سبعة عشر يوماً. وحدثنا أحمد بن يونس، ثنا أحمد بن شهاب، عن عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أقمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر تسع عشرة نقصر الصلاة. (ج/ص: 4/ 363) قال ابن عباس: فنحن نقصر ما بقينا بين تسع عشرة فإذا زدنا أتممنا. وقال أبو داود: ثنا إبراهيم بن موسى، ثنا ابن علية، ثنا علي بن زيد، عن أبي نضرة، عن عمران بن حصين قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح، فأقام ثماني عشر ليلة لا يصلي إلا ركعتين، يقول: ((يا أهل البلد صلوا أربعا فإنا قوم سفر)). وهكذا رواه الترمذي من حديث علي بن زيد بن جدعان وقال: هذا حديث حسن. ثم رواه من حديث محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح خمس عشرة ليلة يقصر الصلاة، ثم قال: رواه غير واحد عن ابن إسحاق لم يذكروا ابن عباس. وقال ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري ومحمد بن علي بن الحسين، وعاصم بن عمرو بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، وعمرو بن شعيب وغيرهم قالوا: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة ليلة. قال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلم، عن مالك بن شهاب، عن عروة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الليث: حدثني يونس، عن ابن شهاب، أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة قالت: كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد أن يقبض ابن وليدة زمعة، وقال عتبة: إنه ابني، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في الفتح أخذ سعد بن أبي وقاص ابن وليدة زمعة، فأقبل به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل معه عبد بن زمعة. فقال سعد بن أبي وقاص: هذا ابن أخي عهد إلي أنه ابنه. قال عبد بن زمعة: يا رسول الله هذا أخي، هذا ابن زمعة ولد على فراشه، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابن وليدة زمعة، فإذا هو أشبه الناس بعتبة بن أبي وقاص، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هو لك هو أخوك يا عبد بن زمعة من أجل أنه ولد على فراشه)). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((احتجبي منه يا سودة)) لما رأى من شبه عتبة بن أبي وقاص. قال ابن شهاب: قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الولد للفراش وللعاهر الحجر)). قال ابن شهاب: وكان أبو هريرة يصرح بذلك. وقد رواه البخاري أيضاً، ومسلم، وأبو داود، والترمذي جميعاً عن قتيبة عن الليث به، وابن ماجه من حديثه، وانفرد البخاري بروايته له من حديث مالك عن الزهري. ثم قال البخاري: ثنا محمد بن مقاتل، أنبا عبد الله، أنا يونس، عن ابن شهاب أخبرني عروة بن الزبير أن امرأة سرقت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، ففزع قومها إلى أسامة بن زيد يستشفعونه. (ج/ص: 4/ 364) قال عروة: فلما كلمه أسامة فيها تلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((أتكلمني في حد من حدود الله)) فقال أسامة: استغفر لي يا رسول الله، فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: ((أما بعد فإنما هلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)). ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك المرأة فقطعت يدها، فحسنت توبتها بعد ذلك وتزوجت. قالت عائشة: كانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد رواه البخاري في موضع آخر، ومسلم من حديث ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة به. وفي صحيح مسلم: من حديث سبرة بن معبد الجهني قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمتعة عام الفتح حين دخل مكة، ثم لم يخرج حتى نهى عنها. وفي رواية فقال: ((ألا إنها حرام حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة)). وفي رواية في مسند أحمد والسنن: أن ذلك كان في حجة الوداع، فالله أعلم. وفي صحيح مسلم: عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يونس بن محمد، عن عبد الواحد بن زياد، عن أبي العميس، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه أنه قال: رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في متعة النساء ثلاثاً، ثم نهانا عنه. قال البيهقي: وعام أوطاس هو عام الفتح، فهو وحديث سبرة سواء. قلت: من أثبت النهي عنها في غزوة خيبر قال: إنها أبيحت مرتين، وحرمت مرتين، وقد نص على ذلك الشافعي وغيره. وقد قيل: إنها أبيحت وحرمت أكثر من مرتين، فالله أعلم. وقيل: إنها إنما حرمت مرة واحدة وهي هذه المرة في غزوة الفتح. وقيل: إنها إنما أبيحت للضرورة، فعلى هذا إذا وجدت ضرورة أبيحت. وهذا رواية عن الإمام أحمد. وقيل: بل لم تحرم مطلقاً وهي على الإباحة، هذا هو المشهور عن ابن عباس وأصحابه، وطائفة من الصحابة، وموضع تحرير ذلك في الأحكام. قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، ثنا ابن جريج، أنبا عبد الله بن عثمان بن خثيم: أن محمد بن الأسود بن خلف أخبره: أن أباه الأسود رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع الناس يوم الفتح، قال: جلس عند قرن مستقبله فبايع الناس على الإسلام والشهادة. قلت: وما الشهادة؟ (ج/ص: 4/ 365) قال: أخبرني محمد بن الأسود بن خلف أنه بايعهم على الإيمان بالله، وشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله. تفرد به أحمد. وعند البيهقي: فجاءه الناس الكبار والصغار، والرجال والنساء فبايعهم على الإسلام والشهادة. وقال ابن جرير: ثم اجتمع الناس بمكة لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فجلس لهم - فيما بلغني - على الصفا وعمر بن الخطاب أسفل من مجلسه، فأخذ على الناس السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا. قال: فلما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء، وفيهن هند بنت عتبة متنقبة متنكرة لحدثها، لما كان من صنيعها بحمزة فهي تخاف أن يأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحدثها ذلك، فلما دنين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبايعهن قال: ((بايعنني على أن لا تشركن بالله شيئاً)). فقالت هند: والله إنك لتأخذ علينا ما لا تأخذه من الرجال ؟ ((ولا تسرقن)) فقالت: والله إني كنت أصبت من مال أبي سفيان الهنة بعد الهنة، وما كنت أدري أكان ذلك علينا حلالاً أم لا ؟ فقال أبو سفيان - وكان شاهداً لما تقول -: أما ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وإنك لهند بنت عتبة ؟)). قالت: نعم، فاعف عما سلف عفا الله عنك. ثم قال: ((ولا يزنين)). فقالت: يا رسول الله وهل تزني الحرة ؟ ثم قال: ((ولا تقتلن أولادكن)). قالت: قد ربيناهم صغاراً حتى قتلتهم أنت وأصحابك ببدر كباراً، فضحك عمر بن الخطاب حتى استغرق. ثم قال: ( فقالت: والله إن إتيان البهتان لقبيح، ولبعض التجاوز أمثل. ثم قال: ((ولا يعصينني)). فقالت: في معروف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: ( فبايعهن عمر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصافح النساء، ولا يمس إلا امرأة أحلها الله له أو ذات محرم منه. وثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط. وفي رواية: ما كان يبايعهن إلا كلاماً ويقول: ((إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة)). وفي الصحيحين عن عائشة: أن هنداً بنت عتبة امرأة أبي سفيان أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني، فهل عليَّ من حرج إذا أخذت من ماله بغير علمه ؟ قال: ((خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك)). وروى البيهقي من طريق يحيى بن بكير، عن الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: أن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله ما كان مما على وجه الأرض أخباء أو خباء - الشك من أبي بكر - أحب إلي من أن يذلوا من أهل أخبائك أو خبائك، ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل أخباء - أو خباء - أحب إلى من أن يعزوا من أهل أخبائك، أو خبائك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وأيضاً والذي نفس محمد بيده)). (ج/ص: 4/ 366) قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، فهل علي حرج أن أطعم من الذي له ؟ قال: ((لا، بالمعروف)). ورواه البخاري: عن يحيى بن بكير بنحوه. وتقدم ما يتعلق بإسلام أبي سفيان. وقال أبو داود: ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن طاووس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: ((لا هجرة ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم ألا فانفروا)). ورواه البخاري: عن عثمان بن أبي شيبة، ومسلم عن يحيى بن يحيى، عن جرير. وقال الإمام أحمد: ثنا عفان، ثنا وهب، ثنا ابن طاووس، عن أبيه، عن صفوان بن أمية أنه قيل له: إنه لا يدخل الجنة إلا من هاجر. فقلت له: لا أدخل منزلي حتى أسأل رسول الله ما سأله، فأتيته فذكرت له فقال: ((لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا)). تفرد به أحمد. وقال البخاري: ثنا محمد بن أبي بكر، ثنا الفضيل بن سليمان، ثنا عاصم، عن أبي عثمان النهدي، عن مجاشع بن مسعود قال: انطلقت بأبي معبد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه على الهجرة، فقال: ((مضت الهجرة لأهلها أبايعه على الإسلام والجهاد))، فلقيت أبا معبد فسألته، فقال: صدق مجاشع. وقال خالد: عن أبي عثمان، عن مجاشع أنه جاء بأخيه مجالد. وقال البخاري: ثنا عمرو بن خالد، ثنا زهير، ثنا عاصم، عن أبي عثمان قال: حدثني مجاشع قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأخي بعد يوم الفتح فقلت: يا رسول الله جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة. قال: ((ذهب أهل الهجرة بما فيها)). فقلت: على أي شيء تبايعه ؟ قال: ((أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد)). فلقيت أبا معبد بعد، وكان أكبرهما سناً فسألته، فقال: صدق مجاشع. وقال البخاري: ثنا محمد بن بشار، ثنا غندر، ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن مجاهد قال: قلت لابن عمر أريد أن أهاجر إلى الشام. فقال: لا هجرة، ولكن انطلق فاعرض نفسك فإن وجدت شيئاً وإلا رجعت. وقال أبو النضر: أنا شعبة، أنا أبو بشر، سمعت مجاهداً قال: قلت لابن عمر فقال: لا هجرة اليوم - أو بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - مثله. حدثنا إسحاق بن يزيد، ثنا يحيى بن حمزة، حدثني أبو عمرو الأوزاعي، عن عبدة بن أبي لبابة، عن مجاهد بن جبير، أن عبد الله بن عمر قال: لا هجرة بعد الفتح. وقال البخاري: ثنا إسحاق بن يزيد، أنا يحيى بن حمزة، أنا الأوزاعي، عن عطاء بن أبي رباح قال: زرت عائشة مع عبيد بن عمير فسألها عن الهجرة، فقالت: لا هجرة اليوم، وكان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله عز وجل وإلى رسوله مخافة أن يفتن عليه، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، فالمؤمن يعبد ربه حيث يشاء، ولكن جهاد ونية. (ج/ص: 4/ 367) وهذه الأحاديث والآثار دالة على أن الهجرة إما الكاملة، أو مطلقاً قد انقطعت بعد فتح مكة؛ لأن الناس دخلوا في دين الله أفواجاً وظهر الإسلام، وثبتت أركانه ودعائمه، فلم تبق هجرة، اللهم إلا أن يعرض حال يقتضي الهجرة بسبب مجاورة أهل الحرب، وعدم القدرة على إظهار الدين عندهم، فتجب الهجرة إلى دار الإسلام. وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء، ولكن هذه الهجرة ليست كالهجرة قبل الفتح، كما أن كلاً من الجهاد والإنفاق في سبيل الله مشروع، ورغب فيه إلى يوم القيامة، وليس كالإنفاق ولا الجهاد قبل الفتح - فتح مكة - قال الله تعالى: وقد قال الإمام أحمد: ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري الطائي، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لما نزلت هذه السورة: فقال له مروان: كذبت وعنده رافع بن خديج، وزيد بن ثابت قاعدان معه على السرير. فقال أبو سعيد: لو شاء هذان لحدثاك، ولكن هذا يخاف أن تنزعه عن عرافة قومه، وهذا يخشى أن تنزعه عن الصدقة، فرفع مروان عليه الدرة ليضربه، فلما رأيا ذلك قالا: صدق. تفرد به أحمد. وقال البخاري: ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله ؟ فقال عمر: إنه ممن قد علمتم، فدعاهم ذات يوم فأدخله معه - فما رأيت أنه أدخلني فيهم يومئذ إلا ليريهم - فقال: ما تقولون في قول الله عز وجل: فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً. فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس ؟ فقلت: لا. فقال: ما تقول ؟ فقلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له، قال: قال عمر بن الخطاب: لا أعلم منها إلا ما يقول. تفرد به البخاري. وهكذا روي من غير وجه عن ابن عباس أنه فسر ذلك بنعي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أجله. وبه قال مجاهد، وأبو العالية، والضحاك، وغير واحد كما قال ابن عباس، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما. فأما الحديث الذي قال الإمام أحمد: ثنا محمد بن فضيل، ثنا عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نزلت: تفرد به الإمام أحمد، وفي إسناده عطاء بن أبي مسلم الخراساني، وفيه ضعف تكلم فيه غير واحد من الأئمة، وفي لفظه نكارة شديدة، وهو قوله: بأنه مقبوض في تلك السنة، وهذا باطل فإن الفتح كان في سنة ثمان في رمضان منها كما تقدم بيانه، وهذا ما لا خلاف فيه، وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول من سنة إحدى عشرة بلا خلاف أيضاً. وهكذا الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني رحمه الله: ثنا إبراهيم بن أحمد بن عمر الوكيعي، ثنا أبي، ثنا جعفر بن عون، عن أبي العميس، عن أبي بكر بن أبي الجهم، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: آخر سورة نزلت من القرآن جميعاً: وقد تكلمنا على تفسير هذه السورة الكريمة بما فيه كفاية ولله الحمد والمنة. وقال البخاري: ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عمرو بن سلمة قال لي أبو قلابة: ألا تلقاه فنسأله ؟ فلقيته فسألته قال: كنا بماء ممر الناس، وكان يمر بنا الركبان فنسألهم ما للناس ما للناس، ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله وأوحى إليه، كذا فكنت أحفظ ذاك الكلام فكأنما يغري في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح فيقولون: اتركوه وقومه فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي حقاً. قال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآناً، فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآناً مني لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت علي بردة إذا سجدت تقلصت عني. فقالت امرأة من الحي: ألا تغطون عنا أست قارئكم؟ فاشتروا فقطعوا لي قميصاً، فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص. تفرد به البخاري دون مسلم.
|